تحميل رواية الحيوان الأخرس pdf لم تظهرْ في السماءِ نجمةٌ واحدةٌ هذه الليلة، فالرياحُ التي انطلقت من جهة الغرب جاءت مُحمَّلةً بالغَمامِ المتكاثف وظلَّ يتراكمُ فوق بعضه البعض حتى أظلمت السماءُ فوق المدينة.
أصواتُ الرعد تهزُّ القلوب القلقة للمشردين والنائمين في العراء ،المطُرُ الجميلُ الذي يتغنَّى بسحره العشاقُ والشعراءُ هو كابوسٌ حقيقيٌ مُفزِع ٌ لآلاف البشر الذين يرتعدون في العراء أو بداخل العشش المتآكلة الأسقف، أو على الأرصفة تحت بروزات الشرفات الإسمنتية، حيث يتفننُ المطرُ في التساقط بطريقة جانبية مائلة كزخاتٍ من الرصاص تُصيبُ أجساد المنكوبين المكومين فوق الأرض، تحت قسوة المطر تصير لياليهم عذاباً لا تقدرُ أيُّ شمسٍ على محو آثاره المؤلمة إلا بمجيء الربيع، حيث تكفُ السماءُ أمطارها، ويستنشقُ السائحون في أرض الله نسائم النسيان، ذلك الدواءُ المُعجزُ الذي كان ولا يزال الوسيلة الوحيدة القادرة على دفع البشر لمواصلة الحياة.
المطرُ جميلٌ فقط لمن يلهون معه طبقا لشروطهم وعلى طرائقهم، وهو جميل أيضا لمن ينصتون إليه من وراء الزجاج السميك والنوافذ المحكمة الغلق وهم يتدللون تحت البطانيات الناعمة الوثيرة التي تضخُ الدفء سريعاً في الأوصال الآدمية.
عندما تنامُ ليلةً واحدةً في العراء وتبكي أعينُ السماء على حالتك المزرية لن تسقط في عشق المطر أبداً، سوف تَعرِفُ أنَّ الأشياءَ الجميلةَ يُمكنُها أنْ تَقتُلكَ!
كان البرقُ يلثمُ جبهة الأرض، يُضيء لثانيتين ويختفي، وبينما يُرسلُ إشارات اطمئنانٍ للمخلوقات المرتعبة في الظلام ويجدون فيه الونيس والأمل، كان صوتُ الرعدِ يُطبقُ بيديه على رحم فتاة مسكينة ليُخلِّصَها من آلامها، وكنتُ بمخيلتي هناك أشاهدُ وأسمعُ كل ما أتُيحَ لي أن أراه أو أسمعه، أنا الراوي لهذه الحكاية وحَكَّاءُ هذه الرواية، شاهدتُ القتلَ الأول وسمعتُ وسوسة النفس، ركبتُ في السفينة يومَ طغى الماءُ، شاهدتُ الموت والحياة والحب والكراهية واليأس والأمل والأوهام والحقيقة والفشل والنجاح والنكران والحقد والغيرة والحسد والظلم والألم وشاهدت الخيانة، كانت مثل فتاةٍ عذراء صغيرةٍ، زرقاء العينين بضةٍ بيضاء بشعرٍ كسنابل الذهب، وكانت رجلاً فَتيَّاً كصاري سفينة، عيناه كحيلتان وصدره حقل قصب، كانت مثل قطعة ذهبية وحيدة تتناقلُ بين الأيدي في الخفاء، وتضيءُ لوهج النار فتخدع العيون ببريقها.
كنت هناك أبحث عن العملة المهملة التي لا يتعامل بها بنو الإنسان.
بحثتُ في الشوارع الواسعة والضيقة والمعتمة والمضيئة، في البحار والجبال والأكواخ والكهوف، في القصور والقبور، بحثتُ في غياهب الصدور.
لقد حطت على يدي كفراشة بيضاء منيرة لبرهة خاطفة من عمر هذه الحياة ومثل ملكة نحل ذهبية بجناحين مضيئين، وضعت فمها على أذني، وأسرَّتْ لي آلاف الحكايات والأسرار.
ثم قالت: احك لهم .
قلتُ: أحكي كل شيء؟
قالت: دعهم ينظرون إلى الداخل.
قلت: وأنا أيضا ؟
قالت: لا مَعرفةً بلا تجربةٍ.