رواية ابن الذئب
الكاتب أشرف الخضري
قراءة رواية ابن الذئب pdf " كيف يَنسلخُ النهارُ منْ الليلِ؟
أين تذهبُ الشمسُ عند المساءِ؟
ثلاثةُ وتسعون مليونَ ميلٍ، مسافةٌ هائلةٌ تفصلني عن الشمس! كيف يستطيعُ أيُّ ليلٍ أن يتغلبَ على هذه المسافة؟
الليلُ حيٌ، الليلُ امرأةٌ شفقيهٌ الخدين، فضيةُ العينين، شعرُها حالكٌ كحدقةِ ظبي، صدرها واسعٌ كمجرةٍ بلا نهاية، تنحني عند كل مغرب من المغارب العديدة، وتحتضنُ الأرضَ، تَلُفُ شعرها الإزار عليها، فينعسُ النهارُ ويصحو أخوه التوأم.
ها هما توأمان، أبيضُ وأسودُ، موحشٌ ومؤنسٌ، صاخبٌ وساكنٌ، يقتسمان رغيفاً واحداً كلَّ يومٍ، وعلى بعضهما لا يبغيان.
ويتخيلُ رضوانٌ، ويضعُ النايَ على مُنتصفِ الطاولة، أمام فوهته يضعُ برتقالةً خضراء ، يناوشها اللونُ الأصفرُ على بعض جنباتها، وأمام مبسمه يضعُ كشافَ جيبٍ صغيرٍ ويضيئوه، ، يطفئ اللمبة النيون، يستديرُ وينظر من مسافة مترين لوجه البرتقالة من جهة الأمام، فيرى أنها ساكنةٌ في عتمة خافتة، فيُحضرُ قطعة المرآة المربعة، ويسندُها بكوبٍ أمام النصف المعتم، فيرتدُ الضوءُ وينيرُها بطريقةٍ حانيةٍ، ويُحدَّثُ نفسه، ليس في الكون مرايا، أتُرى لهذا السببِ لا تنعكسُ صُورُ الملائكةِ والشياطين في المرآة؟!ويطرقُ هاتفٌ مُقلقٌ رأسه، فيستلقي ويحاولُ أن ينام، وتُوقظهُ أولَ النهار أصواتُ العصافير، يمدُ بصره لنورٍ أبيضَ يجيءُ من جهة المشرق قبل بزوغ الشمس، ويتساءلُ من أين يجيء نُورُ مولدِ النهار، وتتوهجُ الشمسُ وتعلو رويداً رويدًا، ويتمطى الضحى.
يسلقُ عدة بيضات، ويُفطرُ بأرغفةٍ كثيرةٍ، يتغيرُ عددُها حسب حالته المزاجية، ثم يغادرُ العشةَ وينطلقُ.
يسيرُ وفي رأسه تدوُر الأسئلةُ كالدبابير حولَ العسل، ويمرُ على الجسر الطيني المتيبس بين الحقول الخضراء، هاتفٌ يطرقُ رأسه عن شر يقتربُ، يشعُر هو به ولا يشعرُ الناسُ.
ويُحدثُ نفسه، يشعرون، ، يشعرون، ، كعلمٍ بالغيب يكادُ يكون. وينفخُ، تظهرُ ليمونتان صغيرتان على خديه للحظات وتختفيان، وتنتقل أنامله فوق فتحتات الناي الست، ثم تتحررُ الأرواحُ المعذبةُ من فوهته الصغيرة وتطيرُ إلى الظلال تحت أوراق التوت اليانعة بالثمار البيضاء والحمراء والسوداء، كأنَّما تختصرُ الحياة َفي ثلاثةِ ألوان.
ويترنَّمُ.. ويندلعُ صوتُهُ الشجيُّ :
( أنا الابنُ والآبُ والروحُ والملكوتُ
أنا ابنُ الهباءِ الطويلِ وعرَّافُ ما لا يكونُ
وما لا يَمُوتُ ) *
في صباه كان يصعد إلى سقف العشة، ينتظر في كل ليلة غير مقمرة ملاكاً مجنحاً، بأربعة أجنحة، يبلغه بقرار الاصطفاء، ويعطيه صحًفا من الذهب، ويأمره أن يبلغ الرسالة، ويطول انتظار رضوان، ويبلغ الرابعة والعشرين، ويفقد حبيبة قلبه، وتموت وسرهما معها، لا يتحدث مع أحد عن أسرار حبه ل"بدرية"، تمنى كثيرا أن يقتل قاتليها، واحدا، اثنين، تسعة، وتمر أيام أحزانه ثقيلة ويترنم ويحرف الأشعار
( ما للسنين مَشْيُهَا وئيدا
أفرحةً تحْمِلنَ أم عَديدا ) *
ويلتقي الدرويشَ عابرَ السبيلِ ويضيفه على بطة، ويتحدثان، ويقرأ الآخر له الكف، يشد حاجبيه مرات ويبتسم مرة، يخبره أنه شخص ناري لا يطيق الانتظار ولا يقبل الانكسار، ويقاطعه رضوان :كان إيليا أبو ماضي يقول ذلك في قصيدة سلمى، ويستمر الدرويش : لقد عشت سنوات عمرك الفائت كفارس الفرسان، تنتظر اصطفاء الخالق لك، لا رسالات بعد محمد ولا علامات، القليل من الرسائل والعلامات ستختار أصحابها بدقة، لا تجهد نفسك كثيرا، عشت كعنترة لسنين طويلة، ما رأيك أن تجرب الطريق الآخر مرة! لن تخسر شيئا، ومضى العابر في سبيل العابرين، لكنه خلف وراءه رضوان جديدا.
سنوات أخرى تمر، لم يعد للجامعة لإكمال دراسته، تركها في منتصف الطريق، كعادته دائما، ويتذكر كلمات الأغنية التي أسمعتها له "بدرية" كثيرا (أقولك رأيي م الآخر.. ما بتكملش للآخر).وأخذ يعتزل الناس، والأنانية والحاقدين، يقرأ وينام ويأكل ويعزف على الناي، يوسوس هو لوسواسه الخناس، ماتت "بدرية" وماتت جمرة الإحساس. ويضحك الآخر ساخرا ويهتف به، لنرى ماذا سيحدث قبل نهاية الطريق. ويعود لسقف العشة والانتظار حتى رأى قمرا بساقين وذراعين وزوائد أخرى تطفئ العينين.
وصار يصعد لسقف العشة كل مساء، لم يعد ينتظر وحيا يهبط من أي سماء، وفي الليلة التي لم تفتح تلك اللؤلؤة شباكها فيها، أدرك أن الطبل والمزامير والأنوار، التي تضيء ليل القرية الهادئ، هي حفل زفاف. يومها أدرك أنه يشاهد الحياة فقط، واعتبر أن ذلك هو عدوى فيروسية من معاشرة الأرواح في الكتب لفترات طويلة، وتحت ظلال الوحدة المعتمة، تحول رضوان الجبل، لدرويش مسكين.