تحميل رواية تجاعيد ذاكرة البنجوس - الجزء الثالث من ثلاثية لا وطن في الحنين pdf يرقصون على إيقاع النقارة، ويغنون شجر القنا والأبقار والقمبيل وطيور الجنة الملونة، والوادي وصندل الردوم. تتخلل أغنياتهم ذاكرة البنجوس، تثوي فيها منطوية على كيرا البسطونة، والوادي الرملي والمروج الخضراء، وأدغال القنا، و ورد البرية السام.. فتنطوي على ربابة البنجوس، ألف نغمة ونغمة، تسري كتيار صاعق، يحرق الشجر!
من هذا المرتفع الذي يرى من مسافات بعيدة، يطل مباشرة على المدينة المقدسة، بمحاذاة جبل (نامي). ترى أطلال المعابد المتفرقة في سفح الجبل؛ ومنحنياته. ترى القصور المنحوتة في أعماقه، و تلك الكهوف، التي نقشت عليها قصة شعب الوادي، بالرموز والإشارات والرسوم، التي تتبدى عن خصي الكبش والخيل والأشجار.
من حواضر الوادي القديمة، شبه الخالية زحف شعب الوادي بكهنته، إلى أعماق جبل ( نومي) يدفعه حزن شفيف على دالي، الذي رحل مبكرا دون إنذار.
في ذلك اليوم الذي رحل فيه دالي، ليلحق بالأسلاف في النوبة.
مضى بعيدا، بعيدا حتى غاب في إيقاع الطبول، وأنغام ربابة البنجوس المنسية، التي لطالما عزفته أوتارها، ليجد نفسه متكئا على صدر الكيرا المتحفز.. تدلك جسده العاري، المتمدد كجبل (اب كردوس) وتجذبه، فينهض أمام الجبل السامق في العرى، كأنه يحتوي الكون كله، ويدلفان إلى قلب الجبل، حيث ينتظره المزارعين الثوار، مصطفين في صفوف دقيقة، يحيونه ويهتفون بالجلالات العسكرية.
في تلك الليلة بعد أن حمل الفتيان (نقاراتهم) وتفرقت جموع الأهالي، ومضى الجميع إلى مخادعهم. وعلى مشارف الفجر، هجم قطاع الطرق الجنكويز، أحرقوا البلدة ونهبوا الأبقار، ولم يتركوا شيئا!
كانوا قد داهموا البلدة على حين غرة، وما أن أفاق الأهالي من هول المفاجأة، حتى أخذوا يتساءلون عن هذا الحدث. الذي بدى غامضا وغير مفهوما، فلأول مرة منذ وقت طويل، يحدث مثل الذي حدث. في مساء اليوم التالي، جاء البنجوس و (كيرالنقي) التي كانت الدماء تغطي جسمها النحيل.
وكان البنجوس مبتلا بالدموع، ومصابا بهاء السكت. وبعد أيام تمكنا من الكلام، فحكيا حكاية لم يصدقها احد: حكى البنجوس عن انتهاك الجنكويز لكيرا وتعاقبهم عليها، دون أن يأبهوا لدموعها وآلامها، وحكت كيرا عن كيف ضربوا البنجوس بأغصان الشجر الشوكي، ورفع البنجوس عراقي الدمورية ليريهم آثار الضرب على ظهره، ورأت النساء تمزق ظهر كيرا وأحشائها، ولاذت الميرم كلتوم بصمت غامض، لم يستطع أحد انتزاعها منه!
بعد يومين اختفت كيرا بصورة غامضة وأصيب البنجوس بالصمت المقيم. فلم ينجح أحد في دفعه للكلام.