تحميل كتاب الهدف السامى للحياة الانسانية pdf ◄تعتبر مسألة (هدف الحياة) إحدى المسائل الأساسية التي ينبغي أن يركز عليها الفكر الإنساني، فلقد ارتسم أمام الإنسان دائماً هذا السؤال: ما هو الهدف من هذه الحياة؟ أي، لأي شيء يعيش الإنسان؟ أو ما هو الهدف الذي ينبغي أن يستهدفه الإنسان من حياته وفي هذه الحياة؟. ومن جانب آخر فإنّا إذا حاولنا أن نبحث الموضوع من وجهة النظر الإسلامية للزمنا أن نطرحه على النحو التالي: (والواقع أن جذور البحث ترجع إلى هذه النقطة بالخصوص). ما هو الهدف من إرسال الأنبياء؟ وما هي الغاية الأصلية لذلك؟. من المسلم به أن هدف بعث الأنبياء لا ينفصل – بحال –عن الهدف الحياتي لأولئك الذين بعث إليهم الأنبياء ليرشدوهم، فإنّ الأنبياء بعثوا ليقودوا البشرية ويوصلوها إلى هدفها النهائي. ولو تقدمنا مرحلة أخرى لوصلنا إلى بحث آخر حول (الهدف من الخلقة) ومن خلال البحث عن مسألة (هدف الخلقة) تطرح مسألة خلق الأشياء، ومن جملتها خلق الإنسان والهدف منه، وهنا يجب أن يوضح الموضوع على النحو التالي: إنّ تعبير (هدف الخلقة) ما هو؟ تارة يطلق ويراد منه التساؤل عن هدف الخالق من عملية الخلق هذه، أي ما هي الدوافع والعوامل التي دفعته لهذه العملية؟ وحينئذٍ نقول: إنّ هذا التساؤل – بهذا العرض – لا معنى له، ولا يمكن أن يكون لعملية الخلق هنا، هدف، أي لا معنى لأن يستهدف الخالق تحقيق شيء من عملية الخلق. فإنّ الهدف هنا يعني العامل والدافع المحرك للفاعل ليقوم بهذا العمل، ولولا وجود هذا العامل والدافع لما قام به. إننا لا نستطيع أن نقول بوجود هدف وغرض في المجال الإلهي، بمعنى أنّ الفاعل يريد عبر فعله أن يصل إلى غرض معيّن، وأن ذلك الغرض هو الذي حركه نحو هذا الفعل، أي أن هناك شيئاً دفع الفاعل ليكون فاعلاً، يسعى لتحقيق ذلك الشيء. وهذا يستلزم نقص الفاعل ومثل هذا الاستهداف إنما يتصور في الفاعلين بالقوة والمخلوقات، أما في الخالق فهو غير متصور، إنّ مثل هذا الاستهداف يرجع إلى الاستكمال، بمعنى أنّ الفاعل يسعى عبر عمله هذا للوصول إلى شيء يفقده. ولكن – وتارة أخرى – يتركز الحديث عن هدف الخلق لا على غاية الفاعل وهدفه وإنما على هدف الفعل ومعنى غاية الفعل. إن أي فعل – نركز عليه – لابدّ أن يكون باتجاه هدف معين، ونحو كمال خلق لأجله، فالفعل خلق ليصل إلى هذا الكمال، لا أنّ الفاعل عمل هذا العمل ليصل هو إلى كماله، بل ليصل الفعل إلى كماله، أي أن نفس الفعل يسير باتجاه الكمال. فإذا قلنا أن ناموس الخلقة يقضي بأن أي فعل يتحرك منذ بدئه باتجاه الكمال، فإنّه – والحال هذه – تكون للخلقة غاية. وهذا هو الواقع، فإن أي شيء يوجد له – أساساً – كمال منتزع، وأنّه خلق ليصل إلى كماله المنتزع، وأن ناموس هذا العالم – بشكل عام – قائم على أن أي شيء يبدأ وجوده من النقص، وتكون مسيرته الكمال، لكي يصل إلى كماله اللائق والممكن. إنّ مسألة (ما هي الغاية من خلق الإنسان؟)، ترجع إلى التساؤل عن (ماهية الإنسان)، وما هي الإمكانات الكامنة في الوجود الإنساني، وما هي الكمالات الممكنة له؟ لذا يجب البحث عن الكمالات التي يمكن للإنسان أن يبلغها. إنّ الإنسان خلق لتلك الكمالات، وطبيعي أنّ الحكمة – بهذا الاعتبار – تعبر عن أن يكون عمل ما لأجل هدف معيّن، فلا يختلف الحال إذا عبّرنا عنها بالحكمة أو الغاية. وعلى هذا فلا داعي لأن نبحث بشكل مستقل عن غاية الخلقة الإنسانية وهدفها، وإنما يرجع هذا البحث إلى التساؤل عن هذا الإنسان. ما هو؟ وما هي الإمكانات الكامنة فيه؟. وبعبارة أخرى: ما دمنا ننظر للبحث من زاوية إسلامية لا عقلية فلسفية، فإن علينا أن نعرف نظرة الإسلام للإنسان، والكمالات التي يمكنه أن يبلغها في التصور الإسلامي. وطبيعي أن بعثة الأنبياء كانت تستهدف تكميل الإنسان، ومما يتفق الجميع عليه أنّ الأنبياء جاءوا ليعينوا الإنسان، ويأخذوا بيده إلى الكمال. إنّ في حياة الإنسان – في الواقع – نوعاً من الخلأ والنقص لا يمكن للإنسان الفردي، بل وحتى الإنسان الاجتماعي أن يسده بمعونة طاقات الأفراد العاديين، فيتعين عليه أن يستعين بالوحي ليكون قادراً على التحرك باتجاه مجموعة الكمالات الممكنة له. فكون الهدف من بعثة الأنبياء هو تكميل الإنسان وإيصاله إلى غاية خلقته بشكل عام، أمر لا ينبغي البحث فيه لأنّ الكل مسلّم به. كما إنّه لا مجال للبحث في ماهية الهدف الحياتي – بشكل عام – لكل فرد من الزاوية الفردية، فإنّه – وحسب ما يمكننا أن نكون وماهية الاستعدادات المتوفرة في وجودنا بالقوة التي نستطيع أن نوصلها إلى المرحلة الفعلية يكون هدفنا الحياتي مطابقاً لذلك تماماً. إلا أنّ هذا المقدار من البحث يبقى كلياً مبهماً ويلزمنا حينئذٍ أن نعود إلى القرآن ليحدثنا – بشكل أكثر تفصيلاً وأشد تعييناً – عن هدف الإنسان، وهل تحدث عن الهدف من خلق الإنسان؟ وهل ذكر لنا الهدف من بعثة الأنبياء؟ وهل تحدث عن الهدف الذي يعيش له الإنسان!. إننا – في الغالب – نتحدث عن المفهوم العام – وهو صحيح بدوره، فنقول: إنّ الإنسان خلق للسعادة، وأنّ الله لا هدف له من خلق الإنسان، ولا يصله نفع من ذلك وإنما خلقه ليصل إلى سعادته، منتهى الأمر أنّ الإنسان يقف في مرتبة من الوجود وموضع يجب معه أن يختار سبيله بكل حرية، وأنّ الهداية الإنسانية تكليفية وتشريعية لا هداية تكوينية وغريزية وجبرية. ولمّا كانت له حرّيته فإنّ الإنسان بعد أن هدي السبيل قد يحسن الاختيار وقد يسيء ذلك. (إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا) (الإنسان/ 3). وهذا أمر صحيح بلا ريب ولكن أين يشخص القرآن هذه السعادة الإنسانية. يقال – عادة –: إنّ الهدف من خلقة الإنسان، والذي ترتهن به السعادة الإنسانية، وبالتالي يكون الهدف من بعثة الأنبياء – بالطبع –، هو تقوية الإنسان في جانبي (العلم) و(الإرادة) فالله خلق الإنسان للعلم والمعرفة – وكماله في معرفته الأكثر – كما خلقه للقدرة ليحقق ما يريد، فتقوى إرادته ويصبح قادراً على تحقيق ما يشاء. وعلى هذا فإنّ الهدف من خلق حبة الحنطة (أو ما هو استعدادها) هو أن تكون بشكل نبتة الحنطة، وإن سعادة الخروف – في حدها الأقصى – تكمن في التهامه علفه وصيرورته سميناً، أمّا ما في إمكان الإنسان فهو يعلو فوق هذه المسائل وهو أن (يعلم) و(يقدر) وكلما علم أكثر وقدر أكثر، كان إلى الغاية والهدف الإنساني أقرب. وتجدهم تارة يقولون أنّ الهدف من حياة الإنسان هو السعادة، بمعنى أن يقضي الإنسان نصيبه من الحياة الدنيا بشكل أفضل وأسعد... يتمتع أكثر بمواهب الخلقة والطبيعة، ويقلل من تأمله فيها، سواء من جانب العوامل الطبيعية أو من جانب أمثاله من أبناء نوعه الإنساني، وليست السعادة شيئاً غير ذلك. فالهدف من خلقنا، هو أن نستفيد في هذه الدنيا من وجودنا ومن الأشياء التي حولنا غاية الاستفادة، أي أن نحصل على (الحد الأعلى من اللذة) و(الحد الأقل من الألم). وحينئذٍ فإنّ الأنبياء جاءوا ليحققوا هذا الغرض، فتكون حياة الإنسان قرينة للسعادة، أي الحد الأكثر من اللذة الممكنة والحد الأقل منن الألم الممكن – وهو الهدف، وإذا كان الأنبياء قد عنونوا مسألة الآخرة بعد ذكر مسألة (الحياة)، فإنما ذلك لأنهم عينوا سبيلاً للسعادة الإنسانية. وبالطبع فإن سلوك هذا السبيل يستلزم ثواباً، كما أن مخالفته تستدعي عقاباً خاصاً. ومن هنا جاءت الآخرة تبعاً للدنيا، كما أن كلّ جزاء يتبع وضع أي قانون، فلكي لا تكون القوانين في هذه الدنيا عبثاً ولغواً – خصوصاً وأنّ الأنبياء لم يكونوا قوة تنفيذية ولم يستطيعوا أن يثيبوا أو يعاقبوا الأشخاص – فقد طرحوا مسألة عالم الآخرة لكي يعاقب المذنبون ويثاب المحسنون إلّا أننا لا نجد مثل هذا في القرآن الكريم. إنّ القرآن يصرح في موضع منه (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإنْسَ إِلا لِيَعْبُدُونِ) (الذاريات/ 56)، فغاية خلق الإنسان والموجود الآخر المسمى بـ(الجن) هي العبادة. وربما كان هذا أمر صعب القبول، فما معنى هذا الهدف؟ وما هي الفائدة التي تعود بها العبادة على الله؟ وهي حتماً ليست بذات فائدة له، وما هي فائدتها العائدة على البشر ليخلق البشر لأجل العبادة ولكن القرآن – على أي حال – يذكر هذا الموضوع بكل صراحة (أي أنّ العبادة هي غاية الخلق الإنساني). وعلى العكس من النظرة السابقة التي تجعل الآخرة أمراً طفيلياً تبعياً، تصرح بعض الآيات بأنّه لو لم تكن القيامة لكان الخلق عبثاً، وهذا يعني أنها جعلت بمنزلة الغاية، وقد تكرر هذا المفهوم في القرآن الكريم كثيراً. (أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ) (المؤمنون/ 115). والعبث يطلق على الشيء الذي لا غاية حقيقية له في قبال الحكمة، فيأتي الإنكار بمعنى أنكم حسبتم أن لا حكمة في خلقكم، وأن ليس هناك غاية حكيمة ولذا فهذه الخلقة عبث وخواء، ثمّ يأتي عطف البيان (وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ) وهذا يعني أنّه لو لم يكن هناك رجوع إلى الله فالخلقة عبث. وإنّنا لنجد القرآن يكرر التقارن بين مسألة القيامة من جهة، ومسألة كون الخلق بالحق، وعدم الباطل واللغو واللعب فيه، وهو في الواقع نوع من الاستدلال. ذلك أن أحد أنماط الاستدلال القرآني على الآخرة هو الاستدلال اللمي – حسب المصطلح المنطقي –، بمعنى أنّه بعد الإيمان بوجود إلهٍ لهذا العالم، وأنّه لا يفعل عبثاً، وأن عمله إنما هو بالحق ولا مجال للباطل واللعب فيه، نعم، بعد الإيمان بأنّ الخليقة لها خالق حكيم، يأتي الإيمان بالرجوع إلى الخالق، في الواقع أنّ القيامة والرجوع إلى الله هي التي تبرر خلق هذا العالم وهذا ما يركز عليه التعبير القرآني وأننا لن نعثر في القرآن الكريم على ما يوحي بأنّ الإنسان خلق ليعلم أكثر ويقدر أكثر لكي يصل إلى هدفه حين يعلم ويقدر، وإنما خلق الإنسان ليعبد الله، وإن عبادة الله هي الهدف، فلو أنّ الإنسان علم وعلم أكثر، وقدر وقدر أكثر، ولم تكن في البين معرفة الله التي هي مقدمة العبادة، ولم تكن هناك عبادة الله، فإنّ الإنسان لم يخط على طريق هدف الخلقة ولا يُعَدُّ من وجهة نظر القرآن إنساناً سعيداً. أما الأنبياء فقد جاؤوا ليوصلوا البشرية إلى السعادة وهي في نظرهم عبادة الله. وبهذا المعنى فلن يكون الهدف الأصلي من الحياة في منطق الإسلام – بالطبع – شيئاً سوى المعبود، فالقرآن يريد صياغة الإنسان ويمنحه هدفه وغايته، والهدف الذي يريد أن يوصل الإنسان إليه هو الله لا غير، وأي شيء غير ذلك ليس إلا مقدمة لا أصالة له ولا استقلال، وليس هو الهدف الأصلي. فالآيات التي تصف الإنسان الكامل، أو تتحدث على لسان هذا الإنسان، تعرف هذا الإنسان بأنّه الذي حدد هدفه بوضوح واتجه نحوه وعمل لأجله. يقول القرآن الكريم على لسان إبراهيم (ع): (إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ) (الأنعام/ 79)، و(إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ) (الأنعام/ 162). وتوحيد القرآن هذا ليس توحيداً فكرياً يعتقد الإنسان معه بأن مبدأ العالم واحد، وخالقه واحد فحسب، وإنما هو توحيد في المرحلة الخاصة للإنسان أيضاً، بمعنى أنّ الإنسان من الجانب العقائدي يعتقد بأن الخالق العالم واحد لا شريك له، ومن جانب الهدف يصل إلى الحد الذي لا يرى هدفاً يستحق أن يستهدف إلا الله لا غير، وبالطبع تكون الأهداف الأخرى منبعثة ونابعة من هذا الهدف، فلا استقلال لها ولا أصالة وإنما تستمد من هذا الهدف وجودها. فكل شيء في الإسلام يدور حول المحور الإلهي سواء من حيث الهدف من بعثة الأنبياء (عليهم السلام)، أو من حيث الهدف الحياتي للفرد. ولندرس الآن مسألة جعل العبادة هدفاً للخلق في القرآن: فعن الإنسان الكامل وعن هدفه الحياتي يقول القرآن الكريم: (إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ) (الأنعام/ 162)، فالإخلاص هو المقصود قبل كلّ شيء، والعبد المخلص هو الذي لا يجد في وجوده حاكماً غير الله. وأما مسألة هدف الأنبياء فللقرآن فيها تعبيرات مختلفة، فهو يقول تارة (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا * وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا) (الأحزاب/ 45-46). وأخرى يقول: (يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ) (البقرة/ 257). فمن الواضح أن بعض التعبيرات صريحة في دعوتها الناس للتعرف على الله، وأنّ الأنبياء هم خلقة اتصال بين المخلوق والخالق والرابط بينهما. ونجد آية أخرى تذكر بصراحة تامة شيئاً آخر كهدف لبعث الأنبياء، وهو "العدالة الاجتماعية". (لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ) (الحديد/ 25)، فما هو هدف البعثة – طبق الآية – وهي من أفعال الله التي لا يمكن أن تكون بلا هدف؟. إنّ القرآن يقول بأنّ البعثة تمت لإقرار العدالة بين الناس فكل الأنبياء جاؤوا للعدالة وهنا نجد فلسفة البعثة قد طرحت بشكل آخر من خلال فرضين: الفرض الأوّل: أنّ الهدف الأساس هو إقرار العدالة بين الناس، ولما كانت العدالة الواقعية لا تقوم بين الناس، - كما يستدل أمثال الفيلسوف أبو عليّ ابن سينا – إلا أن يقوم قانون عادل بينهم، ومثل هذا القانون العادل لا يمكن أن يضعه البشر لعلتين: الأولى: لأنّ البشر غير قادر على أن يشخص الحقيقة، ويتخلَّص من الميول والأغراض المصلحية. والثانية: لعدم وجود ضمان للتطبيق، فإنّ الطبع الإنساني يدفعه لتقديم نفسه على الغير أو التشريع القانون إلى الحد الذي يحقق منافعه، فإذا كان هناك أي ضرر رفضه، وعليه فيجب أن يكون القانون قانوناً يخضع له الإنسان، ومثل هذا القانون لا سبيل له إلا أن يكون من الله بحيث يحس الإنسان من عمق وجدانه بالخوف من عصيانه ولما كان الأمر كذلك أي لكي تتم العدالة، نحتاج إلى القانون العادل، وهذا القانون يجب أن يكون له ثواب وعقاب موضوعان من قبل الله، ولكي يؤمن الناس بالثواب والعقاب، يجب أن يعرفوا الله، فمعرفة الله صارت عبر عدة وسائط مقدمة لإقرار العدالة، وكذلك إنّ العبادات قررت لهذا الفرض، أي لكي لا ينسى الناس مقنن القانون، ويبقوا دائماً على ارتباطهم به، ويتذكروا أنّ لهم رباً يراقبهم، وهو الله الذي شرع القانون العادل لهم. ووفقاً لمثل هذا السير الفكري – ولو بقينا نحن وهذه الآية – وجب أن نقول أنّ الهدف الأصلي من بعثة الأنبياء هو إقرار العدالة بين الناس، وتكون الدعوة إلى الله ثانوية لكي يتعرَّفوا على مقنن القانون، ويحسبوا له حسابه، وإلا فليست لمسألة الدعوة إلى الله ومعرفة الله أصالة، وإنما تقوم على أساس الآنف. فلدينا هنا في الواقع ثلاثة أنماط من المنطق يجب أن نعرف القابل منها للقبول. الأوّل: هذا المنطق الذي عرضناه – ولا نجد له مؤيداً أما ما نقلناه عن أمثال أبي عليّ ابن سينا فلم يكن مؤيداً منهم تأييداً تاماً. لقد جعل هذا المنطق هدف بعثة الأنبياء هو إقرار العدالة بين الناس، فالحياة السعيدة – في الواقع – للناس هي في هذه الدنيا. ومسألة المعرفة والإيمان بالله والإيمان بالمعاد هي – تماماً – مقدمة ذلك، لأنّ العدالة لا تتم إلا بمعرفة الناس لإلههم وإيمانهم بالمعاد، فالإيمان مقدمة العدالة. أما المنطق الثاني: فعلى العكس من ذلك – يؤكد أنّ الهدف الأصلي هو معرفة الله وعبادة الله هي الهدف الأصيل، والتقرب إلى الله هو الهدف الحقيقي، أما العدالة فهي هدف ثانوي، ذلك لأنّ البشرية لكي تصل إلى المعنوية وتفوز بها، عليها أن تعيش هذه الحياة الدنيا، ولأنّ الحياة الإنسانية لا تستقر إلا في ظل الشكل الاجتماعي لها، والشكل الاجتماعي لا يتم إلا باستقرار العدالة، فالقانون والعدالة هما مقدمتان لأن يقوم الإنسان في هذه الحياة الدنيا – باطمئنان – بعبادة الله. وإذا لم يكن الأمر كذلك فلا قيمة للعدالة. وعليه فإنّ المسائل الاجتماعية التي تقول بأهميتها إلى هذا الحد، ونطرحها في مجال العدالة، هي هدف الأنبياء، ولكن لا الهدف الأولي وإنما الهدف الثانوي، أي هي مقدمة لهدف آخر. وهناك رأي ثالث – بأن يقول أحد: ما الداعي لأن نفترض – لبعثة الأنبياء وبالتالي للخلقة والحياة – هدفاً أصيلاً ونعتبر باقي الأهداف مقدمية فإن بالإمكان القول بوجود هدفين لذلك، وأنّهم بعثوا لهدفين مستقلين عن بعضهما. الأوّل: لكي يكونوا واسطة الاتصال بين البشر وخالقهم ولعيبدوا الله، والثاني: لإقرار العدالة بين الناس. وليس أي من هذين الهدفين مقدمة للآخر بل كل منهما هدف أصلي، خصوصاً وأننا رأينا القرآن الكريم يذكر كلا الهدفين، فما المانع من أن يكونا هدفين أصليين ولا يكون أي منهما مقدمة للآخر؟. ولهذا الأمر نظائر في مجالات أخرى تعرض لها القرآن. فمثلاً نجد القرآن الكريم يؤكد على تزكية النفس كثيراً، أنّه يؤكد على هذا التهذيب والتنمية النفسية كثيراً فيقول: (قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا) (الشمس/ 9-10) ففلاح الإنسان رهين تزكية النفس في نظر القرآن وهنا يقال: هل أن تزكية النفس هذه هي بنفسها هدف في تصور الإسلام؟. هل أن تزكية النفس هدف لحياة الإنسان وبعثة الأنبياء وخلقة الإنسان؟. أم أنها مقدمة؟. وإذا كانت مقدمة فهي مقدمة لأي شيء؟. هل هي مقدمة لمعرفة الله، ومقدمة للاتصال بالله وعبادته؟. هل هي مقدمة لإقرار العدالة الاجتماعية؟. وقد جاء الأنبياء لهدف إقامة العدالة الاجتماعية، ومن الضروري لكي تقوم بين الناس أن تعتبر بعض الصفات التي لا تنسجم مع الحياة الاجتماعية رذيلة، والأخرى المنسجمة معها فضيلة، وحينئذٍ فلابدّ للإنسان أن ينزه نفسه من الصفات التي لا تنسجم مع الحياة الاجتماعية ويخلصها من الحسد والكبر والعجب، وعبادة الذات والهوى وغير ذلك، ويزين نفسه بتلك الصفات التي تعتبر أخلاقاً اجتماعية، وتساعد على إقرار العدالة الاجتماعية مثل الصدق والأمانة والإحسان والمحبة والتواضع وغيرها. أو قد يقال: أن تزكية النفس – أساساً وبقطع النظر عن أي هدف آخر – هي بنفسها هدف مستقل؟. والآن أيُّ هذه الآراء ينبغي قبوله؟. إننّا نرى أنّ القرآن يرفض أي نوع من الشرك وبأي معنى كان. أنّه كتاب توحيدي بكل معنى الكلمة. توحيدي بمعنى أنّه يرفض وجود أي مثل لله (التوحيد الذاتي: (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) (الشورى/ 11). وهو توحيدي بمعنى أنّه يصف الله بكل الصفات التي تعطي الحد الأعلى من الكمال له (لَهُ الأسْمَاءُ الْحُسْنَى) (الحشر/ 24)، والأمثال العليا (وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الأعْلَى) (النحل/ 60). أنّه كتاب التوحيد، بمعنى أنّه يرفض أيَّ فاعل في قبال الله، ويرى أن أي فاعل، يأتي بعد الله، وفي طوله – كما يصطلح – وهذا هو معنى "لا حول ولا قوة إلّا بالله". وهو كتاب التوحيد بمعنى أنّه لا يرى للكائنات هدفاً أساسياً مستقلاً► .
عرض المزيد