تحميل كتاب القواعد الفلسفية العامة في الفلسفة الإسلامية ج1 pdf لم تكن الفلسفة غريبة عن الحضارة العربية الإسلامية، إذ يمثل الفكر الفلسفي في الإسلام مرحلة بارزة ومهمة من تاريخ الفلسفة عبر العصور، فقد مثَّل تاريخ الفلسفة في الإسلام عصراً من أطول العصور الفلسفية، فهو يمتد من القرن الثالث الهجري/ التاسع الميلادي مع الكندي، إلى القرن الحادي عشر الهجري/ السابع عشر الميلادي مع صدر الدين الشيرازي، وهو ما يشكل تسعة قرون كاملة. صحيح أن الفلسفة قد شهدت انقطاعاً في الغرب الإسلامي بعد وفاة ابن رشد، إلا أنها استمرت في الشرق لدى الاتجاهات السينوية التي يعد صدر الدين الشيرازي آخر ممثل لها. وبناء على ذلك فإن الدعوة الحالية إلى إحياء الفلسفة في ثقافتنا العربية والإسلامية لا تبدأ من الصفر ولا تنطلق من فراغ، بل هي مستندة على تاريخ الفلسفة الطويل في الإسلام، وعلى رصيد كبير من الأعمال الفلسفية التي قدمها الفلاسفة العرب منذ أواخر القرن التاسع عشر وطوال القرن العشرين. والراصد لتاريخ الحضارات يلاحظ دوماً ارتباط الحضارات في صعودها وازدهارها بازدهار الفكر الفلسفي فيها، فلم يشهد تاريخ الإنسانية حضارة صاعدة لم تنتج فكراً فلسفياً يستجيب لخصوصيتها الثقافية ووضعها التاريخي، وليست الحضارة الإسلامية استثناءً من هذه القاعدة بل تأكيداً قوياً عليها. لقد كانت الحضارة الإسلامية في عصور ازدهارها حاضنة للفكر الفلسفي، واختفت منها الفلسفة في عصور انهيارها، فالفلسفة تزدهر وتضمحل مع ازدهار واضمحلال الحضارة. ويسود بين دارسي الفلسفة الكثير من المثقفين أن الفلسفة في الإسلام كانت مجرد صدى للفلسفة اليونانية، وأن فلاسفة الإسلام لم يقدموا سوى شروح وتعليقات على فلاسفة اليونان وأهمهم أرسطو، والغريب في الأمر أن هذه الوجهة في النظر كانت في الأصل استشراقية، تبناها بعض المفكرين العرب المحدثين، والحقيقة هي عكس ذلك تماماً. إن الحجم العائل من الشروح التي قدمها الفلاسفة في الإسلام لأرسطو وغيره من الفلاسفة اليونان هو الذي يوحي بتلك النظرة حول تبعية الفلسفة في الإسلام لليونان، أما على مستوى الإنتاج الفلسفي المستقل والذي يتوافر فيه الإبداع والجدة، فلدينا العديد من الأعمال الفلسفية العربية الأصيلة التي لا يمكن اعتبارها مجرد شروح على الفلسفة اليونانية، وأشهرها (تدبير المتوحد) لابن باجة، و(قصة حي بن يقظان) لابن طفيل، و(تهافت التهافت) لابن رشد، والذي لم يكن مجرد رد على (تهافت الفلاسفة) للغزالي، بل كان فوق ذلك عملاً فلسفياً وضع فيه ابن رشد خلاصة فكره الفلسفي الذي طور فيه فلسفة أرسطو. وبعد طول انقطاع في عصور الانحطاط، عادت مسيرة الفكر الفلسفي مرة أخرى في العالم العربي، وتزامنت مع تحرر الأقطار العربية من الاستعمار وأخذها بسبل النهضة الفكرية والعلمية والمادية، فظهرت الاتجاهات الفلسفية ابتداءً من أواخر القرن التاسع عشر، وتخللت أعمال الإصلاحيين أمثال رفاعة الطهطاوي، وخير الدين التونسي، وعبدالرحمن الكواكبي، ومحمد عبده، وتنوعت وتشعبت في القرن العشرين حتى كانت موازية للاتجاهات الفلسفية الغربية، من تطورية (شبلي شميل وسلامة موسى) ووجودية (عبدالرحمن بدوي) وماركسية (طيب تيزيني) وشخصانية (عثمان أمين) وبنيوية (محمد عابد الجابري) وظاهراتية (حسن حنفي). نحو تعريف جديد للفيلسوف إذا كانت الفلسفة بمعناها الواسع هي التفكير العقلاني الحر، الذي لا يبدأ بأي مسلمات أو مصادرات مسبقة إلا المبادئ العامة للعقل الإنساني، فهي بهذه الصفة ضرورية لكل مجتمع بشري، ولا يمكن أن تخلو منها أي ثقافة. يُعرِّفنا تاريخ الفلسفة أن الفيلسوف هو صاحب الرؤية الشاملة للعالم والإنسان، وهو الذي يسعى لتفسير شامل لأصل الكون ولموقع الإنسان فيه، وهو الذي يتوصل إلى المبادئ الأولى الحاكمة للمعرفة والسياسة والقانون والأخلاق والفن. كما عرفنا نماذج عديدة للفيلسوف عبر تاريخ الفلسفة الطويل، من طاليس وسقراط، وأفلاطون، وأرسطو، مروراً بالكندي والفارابي وابن سينا وابن رشد، وحتى ديكارت وكانط وهيجل وسارتر وهايدجر. وعلى أساس هذه الخلفية يجب علينا في عصرنا الحالي محاول تقديم تعريف جديد للفيلسوف، يستجيب للتطور العلمي الهائل الذي يمثل ثورة غير مسبوقة في تاريخ البشرية. فمن سيكون هو الفيلسوف في عصر العلم والتكنولوجيا؟ سوف أحاول تعريف القارئ في البداية بالمفكرين الذين يطلق عليهم (فلاسفة) في عصرنا الحالي، ثم أقدم تعريفاً جديداً. جرى العرف في الولايات المتحدة على وجه الخصوص على إطلاق لقب (فيلسوف) على أي أستاذ جامعي كبير ومشهور متخصص في الفلسفة ولديه نظرية فلسفية خاصة به. كما تطلق هناك بكثير من التسامح على كل دارسي الفلسفة. إذ تطلق على طلبة أقسام الفلسفة كنوع من اسم الشهرة لهم أو تمييزاً لهم عن الطلبة الآخرين. وكذلك يُطلق هذا الاسم على طائفة من المفكرين الذين هم في الأصل أساتذة جامعيون، أمثال كارل بوبر، وتوماس كون، وويلارد كواين، وهيلاري بتنام. وما يجمع هؤلاء أنهم أقاموا نظريات كبرى في تطور العلم الحديث، تفسر نشأته وتطوره، وتكتشف مبادئه ومناهجه الأساسية. فصار الفيلسوف في القرن العشرين هو الذي يعمل على تفسير طريقة التفكير العلمي والتنظير لها، وصارت الفلسفة في عصرنا هي فلسفة العلم وفلسفة المنهج العلمي. كما أن الفيلسوف في عصرنا صار هو الذي يحاول اكتشاف المعنى والغاية في التاريخ الإنساني، ويبحث في الاتجاهات الكبرى في التطور الإنساني عبر التاريخ، والتغيرات الكبرى التي يكشف عنها تعاقب الحضارات، ولذلك يطلق اسم (فيلسوف) على علماء التاريخ الذين أنشأوا نظريات شاملة تفسر التاريخ الإنساني، مثل أوزوالد شبنجلر، وأرنولد توينبي، وإرنست كاسيرر. ويطلق اسم (فيلسوف) في عصرنا كذلك على كل من ينظر إلى العلوم الاجتماعية نظرة شاملة، ويعاملها على أنها متكاملة لكونها تدرس ظواهر إنسانية واجتماعية واحدة، ومن هذا النوع من الفلاسفة لدينا هوركهايمر، وأدورنو، وهابرماس. كما يطلق اسم (فيلسوف) على المتخصص في الفكر القانوني والسياسي إذا تجاوز علم القانون وعلم السياسة ليبحث عن أسس العدالة في ذاتها وعن طبيعة الحقوق والواجبات وعن شروط المجتمع العادل وماهية العدالة الاجتماعية، وأبرز مثال على ذلك هو الفيلسوف الأمريكي جون رولز صاحب كتاب (نظرية في العدالة) (1971). وبالتالي فإن الفيلسوف في عصرنا يمكن أن يكون هو أي عالم متخصص في فرع علمي معين لكنه يتوسع بفرعه هذا لينظر منه نظرة شاملة إلى باقي العلوم وإلى مجمل الظواهر الإنسانية والكونية. فعالم الفيزياء يمكن أن يصير فيلسوفاً إذا لم يتقيد بتخصصه وخرج منه، وانطلاقاً من هذا التخصص إلى البحث في طبيعة الكون كله ونشأته الأولى، مثل آينشتاين وستيفن هوكنج. وعالم التاريخ يمكن أن يصير فيلسوفاً إذا بحث في مجمل تطور التاريخ البشري وعوامل قيام وسقوط الحضارات، مثل شبنجلر وتوينبي. والباحث في العلوم الاجتماعية يمكن أن يصير فيلسوفاً إذا سعى إلى تطبيق فكرة وحدة العلم الاجتماعي وعمل على ضم الظواهر الاجتماعية والنفسية والسياسية والاقتصادية في نظرية واحدة شاملة. وبالتالي فإن الفيلسوف في عصرنا لم يعد هو المقتصر على دراسة الموضوعات والقضايا الفلسفية التقليدية مثل طبيعة الوجود أو مصدر المعرفة البشرية أو مشكلات الميتافيزيقا، بل صار هو صاحب كل تخصص علمي يستطيع أن يجيب لنا انطلاقاً من تخصصه عن الأسئلة الخاصة بالأصول الأولى للكون والغاية النهائية للوجود البشري. وهذا هو الباب الذي يجب أن يدخل منه الفكر العربي ليسهم في مسيرة الفكر الفلسفي العالمي، فطالما نجح المفكر العربي في تكوين رؤية شاملة لقضايا الإنسان المعاصر وتقديم حلول لمشكلاته، صار مسهماً في الفلسفة العالمية. يتكون هذا الكتاب من جزأين مهمان في موضوع الفلسفة الإسلامية وقاعد الانطلاق لها، فهو فريد في بابه، عميق دقيق في طرحه، سلس في بيانه(لطلاب الفلسفة)، منظم في تسلسله، وهو من الكتب التي يوصي بها أساتذة العلوم العقلية طلاب هذا الفن. .
عرض المزيد